غزة- نصر رغم الإبادة، وتقييم موضوعي للحرب ونتائجها

في خضم هذه الكارثة الإنسانية المروعة التي تشهدها غزة، قد يتبادر إلى الذهن أن التساؤل عن جدوى ما حدث يمثل استهانة بتلك المأساة أو تجاهلًا لأبعادها الكارثية. لكن، على العكس تمامًا، فإن هذا التساؤل يكتسب طابعًا مُلحًا لأسباب جمة، وفي طليعتها تلك المأساة الإنسانية العميقة والمتشعبة التي تعصف بالقطاع. يُضاف إلى ذلك، أن هذا السؤال يُطرح بأشكال شتى وبطرق مُغلوطة من قبل أطراف عديدة، ولكل منهم غاياته ومآربه، مما يستدعي خوض نقاش جاد وتقييم شامل.
إن تلك التضحيات الجسام التي قدمها أهالي غزة الأبطال تُستخدم كدليل على الهزيمة أو على خطأ القرار الذي اتُخذ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وذلك إما تأثرًا بالخسائر الفادحة التي تكبدها القطاع، أو استغلالًا لتلك الخسائر لتحقيق مكاسب سياسية رخيصة. لكن، يجب التأكيد على أن الخسائر المادية المباشرة، سواء كانت بشرية أو اقتصادية أو عمرانية، ليست هي المعيار الوحيد، بل قد لا تكون الأهم في تقييم نتائج الحروب التقليدية، على الرغم من أهميتها الكبيرة. فما بالنا بالحروب غير المتكافئة، وتحديدًا مقاومة الاحتلال، والتي تتسم باختلال موازين القوى، وازدياد احتمالية تكبد الطرف الأضعف/ المقاوم لخسائر تفوق بكثير خسائر عدوه الأقوى/ المحتل؟
إن التقييم الموضوعي لا يعتمد على منظور إنساني محض، ولا يقتصر على تقييم طرف واحد فقط، بل يستلزم الاهتمام بالسياق العام والظروف المحيطة والمتغيرات الطارئة والجهات الفاعلة والأهداف المنشودة. يُضاف إلى ذلك تفاصيل الاتفاقات المبرمة، فضلًا عن خسائر العدو، سواء كانت قصيرة أو طويلة الأمد. والأهم من كل ذلك، هو اعتماد منظور تقييم مختلف جذريًا في هذه الحرب.
خسائر العدو
الحرب بطبيعتها صراع بين طرفين، ومن البديهي أن خسائر أحد الطرفين لا تكفي بمفردها لتقييم النتائج، حتى في حال اعتماد الخسائر كعامل أساسي في هذا التقييم. وبناءً عليه، فإنه جنبًا إلى جنب مع كل التضحيات التي قدمها الغزيون الأبطال، يجب إمعان النظر في الخسائر التي تكبدها الاحتلال الغاشم.
وهنا، لن نكتفي بالخسائر المباشرة التي تكبدها العدو، من قتلى وجرحى وأسرى وخسائر اقتصادية فادحة، والتي تفوق بكثير حصيلة أي حرب سابقة، على الرغم من أهمية ذلك. بل سنتعمق أكثر في مساحات استراتيجية أوسع.
فقد فشل الاحتلال الذريع في تحقيق أي من الأهداف الكبرى التي وضعها نصب عينيه قبل شن الحرب، فهو لم يستطع استعادة أسراه بالقوة ودون التوصل إلى اتفاق، ولم يتمكن من القضاء على المقاومة الباسلة، ولا إقصاء حركة حماس بشكل كامل عن قطاع غزة، فضلًا عن عجزه التام عن منع التهديدات التي تستهدف الداخل "الإسرائيلي".
في المقابل، حقق الفلسطينيون جلّ ما طالبوا به كشرط أساسي للتوصل إلى اتفاق، ألا وهو وقف إطلاق النار، وإبرام صفقة لتبادل الأسرى، وإدخال المساعدات الإنسانية، وعودة النازحين إلى ديارهم، وإعادة الإعمار، مع انتظار التنفيذ الفعلي لتلك البنود في المستقبل القريب.
والأكثر من ذلك، فقد تمكنت المقاومة الفلسطينية الباسلة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من تحطيم كل مقومات الأمن القومي "الإسرائيلي"، واستراتيجياته العسكرية، فتحطم "الردع"، وفشل "الإنذار المبكر"، ولم تدُرْ رحى الحرب "على أرض العدو"، وعجز الاحتلال عن تحقيق "الحسم السريع".
وقد أدت هذه الإخفاقات إلى خسائر استراتيجية فادحة لـ "إسرائيل"، التي لم تعد بالنسبة لمجتمعها تمثل واحة الاستقرار والرفاهية، ولا القاعدة الآمنة التي يمكنها حمايتهم ومنع أي طرف من مجرد التفكير في مقاومتها، فضلًا عن مهاجمتها. وقد انعكس ذلك جليًا في أعداد الهجرة المتراجعة إلى "إسرائيل" وتزايد أعداد المهاجرين منها إلى الخارج.
يُضاف إلى كل ما سبق، خسارة الاحتلال لصورة القوة والردع، ليس فقط أمام المقاومة الفلسطينية وحلفائها وشركائها، ولكن أيضًا أمام أطراف أخرى ليست بالضرورة في مواجهة مباشرة معه في الوقت الراهن. فقد تحدث وزير الخارجية التركي (رئيس جهاز الاستخبارات السابق) عن "الثغرات الكبيرة" التي ظهرت في المنظومة الأمنية "الإسرائيلية"، بينما أقر رئيس جهاز الاستخبارات السعودي السابق تركي الفيصل بأن "عملية حماس حطمت صورة إسرائيل القوية أمام العالم".
ومن الواضح بجلاء أن هذه الخسائر هي من النوع الاستراتيجي، والمفتوح على التفاعل المستقبلي، والقادر على تأجيج المشاكل الداخلية وتفاقم بعضها الآخر، وأنها ترتبط بشكل مباشر بمسألة الصراع مع الفلسطينيين ومآلاته بعيدة المدى. ولا سيما إذا ما أُضيف إليها خسارة "إسرائيل" لسمعتها ومعركة الصورة والسردية على الصعيد العالمي، ومحاكمتها أمام محكمة العدل الدولية (بتهمة ارتكاب الإبادة)، والمحكمة الجنائية الدولية، وهذه أيضًا خسائر لا ينبغي الاستهانة بها على الإطلاق.
لماذا الطوفان؟
إن كل ما سبق، وغيره الكثير، يفسر لماذا يرى الكثيرون في "إسرائيل" أنهم مُهزمون، وأن الفلسطينيين قد انتصروا، وأن بنود الاتفاق كانت تصب في مصلحة الفلسطينيين لا في مصلحة الاحتلال، حتى أن بعضهم وصفه بأنه اتفاق إذلال أو استسلام. فضلًا عن الاستقالات العديدة التي شهدتها المستويات السياسية والعسكرية والأمنية خلال الحرب وبعد توقيع الاتفاق.
ورغم ذلك، يبقى سؤال يتردد في أذهان البعض. حسنًا، لقد فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه، وصمدت المقاومة، ثم حققت معظم أو كل أهدافها من الاتفاق، ولكن بعض أو معظم ذلك يعتمد على أمور لم تكن موجودة أصلًا قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فضلًا عن الثمن الباهظ الذي دُفع، فلماذا كان قرار "الطوفان" إذن؟ وهل كان يستحق كل هذه التضحيات الجسام؟
يفترض هذا السؤال، ضمنيًا، أن من اتخذ قرار السابع من أكتوبر/ تشرين الأول كان يتوقع كل هذه التداعيات، بما فيها حرب الإبادة، ورغم ذلك اتخذ قراره، أو أنه "فشل في توقع" هذه الارتدادات. والحقيقة أن هذين الافتراضين، المتناقضين للمفارقة، لا يقومان على أساس نظري أو عملي صحيح.
عمليًا، كان واضحًا للعيان أن "طوفان الأقصى" تختلف عما سبقها من مواجهات وحروب مع الاحتلال، وأن ردة فعله ستكون بالتالي أشد قسوة، بما في ذلك الدخول البري للقطاع. وقد بات من الواضح أن المقاومة قد اتخذت احتياطاتها اللازمة لهذا السيناريو على مستوى هيكلة كتائب القسام تحديدًا في مناطق القطاع، وكذلك الأساليب القتالية والأسلحة المستخدمة.
وأما نظريًا ومبدئيًا، فثمة مغالطة خطرة في هذا الطرح، الذي يعرض حرب الإبادة، ضمنيًا، وكأنها رد فعل عادي ومنطقي ومتوقع كان ينبغي الاحتياط له أو تجنبه بخطوات محددة، وهذا غير صحيح، وغير أخلاقي كذلك.
فهل كان ينبغي على المقاومة الفلسطينية أن تتوقع أن تكون ردة الفعل على مهاجمة قوة غزة استباحة القطاع بالكامل، بناسه وبنيانه ومرافقه، وتنفيذ حرب إبادة وسيناريو تهجير المدنيين، وحصول "إسرائيل" على دعم غير مسبوق ولا محدود ولا مشروط – بل مشاركة فعلية – من المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، بينما يقف العالم العربي والإسلامي بين متفرج ومتواطئ وعاجز عن إدخال أبسط المساعدات الإنسانية، وأن العالم سيتحمل مشاهد المجازر اليومية على مدى ما يقرب من 500 يوم متواصلة؟
فالإبادة لم تكن ممكنة لولا مواقف مختلف الأطراف طوال العدوان، فكيف يُتغاضى عن هذه الأدوار التي ساهمت بها، بينما يوجه اللوم للطرف الوحيد الذي اضطلع بمسؤولياته بشكل شبه مثالي؟
من جهة ثانية، فقد تغيرت مبادئ الأمن القومي "الإسرائيلي" في الحرب الأخيرة بشكل جذري وكامل، بعد أن انهارت الأسس السابقة، ما يصعّب كثيرًا إمكانية المقارنة مع المواجهات السابقة.
ولئن كان تهميشُ المنظومة الأمنية "الإسرائيلية" يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أحد أهم الأسباب في هذا التغيير، لكنه لم يكن العامل الوحيد، حيث حضرت عوامل ذاتية وإقليمية ودولية مستقلة عن تلك العملية، بدليل تغير هذه المنظومة مع حزب الله في لبنان بدون تغيرات دراماتيكية في قواعد المواجهة في جنوب لبنان، والضفة الغربية مثال آخر.
بهذا المعنى، يمكن النظر للعدوان البري على غزة كحرب أو مرحلة مستقلة عن الطوفان وإن كانت متأثرة به، ولذلك فإن من يقيس قرار الطوفان على خسائر حرب الإبادة وكأنه يقيّم معركة/ حربًا بناءً على نتائج أخرى مختلفة عنها بالكلية.
كما أن هذه النظرة تتجاهل التداعيات بعيدة المدى للحرب على دولة الاحتلال، من حيث الانقسامات والخلافات الداخلية، والمحاكمات والاستقالات، فضلًا عما يرتبط مباشرة بمسألة البقاء والخطر الوجودي، من قبيل تهاوي الردع، والحاجة لدعم قوى عظمى، وتداعي الاقتصاد، وفقدان الشعور بالأمن، وتراجع الثقة بالمؤسسة العسكرية – الأمنية.
وأخيرًا، فإن رفض القيام بعمليات مبادِرة أو مهاجِمة من باب أن ردة فعل الاحتلال ستكون دموية يقدح في أصل فكرة المقاومة، التي مسؤوليتها ورسالتها التحرير وليس مجرد المناوشة، في ظل أن الاحتلال سيسعى دائمًا لتعظيم الثمن ضمن سياسة كيّ الوعي، وهو ما يتطلب حذرًا إضافيًا في ترديد سرديات قد تخدم بعض أهدافه في هذا السياق.
في الختام، لا شك أن مجرد نجاة شعبنا الصامد في غزة من المقتلة التي عرضهم لها الاحتلال طوال هذه الأشهر العصيبة يُعد مكسبًا عظيمًا، ولا ريب أن المشهد برمته يكتنفه من الجلال والرهبة ما يفرض علينا خطابًا رصينًا وهادئًا أمام فداحة التضحيات.
لكن، ومن زاوية أخرى، فإنه من حق هذا الشعب العظيم الذي قدم التضحيات الجسام وصمد في وجه الإبادة وأفشل مخططات التهجير أن نعلن له بكل فخر واعتزاز أن تضحياته لم تذهب سدى، وأن صموده الأسطوري قد أثمر نصرًا مؤزرًا، وأن تراجع الاحتلال وإذعانه في الاتفاق الأخير لم يكن ليتحقق لولا بسالة المقاومة وصمود شعبها الذي راهن الاحتلال على رفعه الراية البيضاء، أو تخليه عن المقاومة وتسليمها، وهو ما ينبغي علينا أن نفخر به كواجب مستحق تجاههم وليس فقط كحق أصيل لنا.
لقد انتصرت غزة العزة، بأهلها الأبطال ومقاومتها الباسلة، ليس من باب الادعاء الفارغ والشعارات الرنانة، ولكن من خلال تقييم موضوعي ومنطقي للحرب ونتائجها قصيرة الأمد وبنود الاتفاق المبرم، والأهم من ذلك بما مهدته من مسارات واعدة لاستكمال مشروع التحرير على المدى البعيد.
والأهم من كل ذلك، أن يكون النظر واستخلاص الدروس بهدف الاستفادة منها في تحسين المسارات المستقبلية وتقديم النصح والإرشاد في هذا الاتجاه، وليس من باب التقريع وتوزيع الاتهامات وادعاء احتكار الحكمة والمصلحة، والأهم الاضطلاع بالمسؤوليات الفعلية وعدم الاكتفاء بالثرثرة الكلامية على أهميتها.